الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)
.وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدّمَةً وَإِرْهَاصًا: وَمِنْهَا: أَنّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَثَبّتَهُمْ وَوَبّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إنْ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ قُتِلَ بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَلُوا فَإِنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ رَبّ مُحَمّدٍ وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوتُ فَلَوْ مَاتَ مُحَمّدٌ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَمَا بُعِثَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُخَلّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالتّوْحِيدِ فَإِنّ الْمَوْتَ لَابُدّ مِنْهُ سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمّا صَرَخَ الشّيْطَانُ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ فَقَالَ: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ} [آل عِمْرَانَ 144] وَالشّاكِرُونَ هُمْ الّذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَارْتَدّ مَنْ ارْتَدّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الشّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ فَنَصَرَهُمْ اللّهُ وَأَعَزّهُمْ وَظَفّرَهُمْ بِأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ جَعَلَ لِكُلّ نَفْسٍ أَجَلًا لَابُدّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ ثُمّ تَلْحَقَ بِهِ فَيَرِدُ النّاسُ كُلّهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا مَوْرِدًا وَاحِدًا وَإِنْ تَنَوّعَتْ أَسْبَابُهُ وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَصَادِرَ شَتّى فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ وَلَا ضَعُفُوا وَلَا اسْتَكَانُوا بَلْ تَلَقّوْا الشّهَادَةَ بِالْقُوّةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْإِقْدَامِ فَلَمْ يَسْتَشْهِدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلّةً بَلْ اُسْتُشْهِدُوا أَعِزّةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ وَالصّحِيحُ أَنّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا اسْتَنْصَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عِمْرَانَ 147] لَمّا عَلِمَ الْقَوْمُ أَنّ الْعَدُوّ إنّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنّ الشّيْطَانَ إنّمَا يَسْتَزِلّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا وَأَنّهَا نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقّ أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدّ وَأَنّ النّصْرَةَ مَنُوطَةٌ بِالطّاعَةِ قَالُوا: رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ثُمّ عَلِمُوا أَنّ رَبّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ وَنَصْرِهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ وَأَنّهُ إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا وَلَمْ يَنْتَصِرُوا فَوَفّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقّهُمَا: مَقَامَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التّوْحِيدُ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَمَقَامَ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ النّصْرَةِ وَهُوَ الذّنُوبُ وَالْإِسْرَافُ ثُمّ حَذّرَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ طَاعَةِ عَدُوّهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ أَطَاعُوا الْمُشْرِكِينَ لَمّا انْتَصَرُوا وَظَفِرُوا يَوْمَ أُحُدٍ. ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ فَمَنْ وَالَاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ.{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ...}ثُمّ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ الرّعْبَ الّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ وَأَنّهُ يُؤَيّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِنْ الرّعْبِ يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَشَدّ شَيْءٍ خَوْفًا وَرُعْبًا وَاَلّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِالشّرْكِ لَهُمْ الْأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلَاحُ وَالْمُشْرِكُ لَهُ الْخَوْفُ وَالضّلَالُ وَالشّقَاءُ.{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ}ثُمّ أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ صَدَقَهُمْ وَعْدَهُ فِي نُصْرَتِهِمْ عَلَى عَدُوّهِمْ وَهُوَ الصّادِقُ الْوَعْدِ وَأَنّهُمْ لَوْ اسْتَمَرّوا عَلَى الطّاعَةِ وَلُزُومِ أَمْرِ الرّسُولِ لَاسْتَمَرّتْ نُصْرَتُهُمْ وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَنْ الطّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرْكَزَهُمْ فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطّاعَةِ فَفَارَقَتْهُمْ النّصْرَةُ فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ عُقُوبَةً وَابْتِلَاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِسُوءِ عَوَاقِبِ الْمَعْصِيَةِ وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطّاعَةِ. ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَنّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. قِيلَ لِلْحَسَنِ كَيْفَ يَعْفُو عَنْهُمْ وَقَدْ سَلّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ حَتّى قَتَلُوا مِنْهُمْ مَنْ قَتَلُوا وَمَثّلُوا بِهِمْ وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوهُ؟ فَقَالَ لَوْلَا عَفْوُهُ عَنْهُمْ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَكِنْ بِعَفْوِهِ عَنْهُمْ دَفَعَ عَنْهُمْ عَدُوّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى اسْتِئْصَالِهِم.{إذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ....}ثُمّ ذَكّرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْفِرَارِ مُصْعِدِينَ أَيْ جَادّينَ فِي الْهَرَبِ وَالذّهَابِ فِي الْأَرْضِ أَوْ صَاعِدِينَ فِي الْجَبَلِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نَبِيّهِمْ وَلَا أَصْحَابِهِمْ وَالرّسُولُ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ إلَى عِبَادِ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ فَأَثَابَهُمْ بِهَذَا الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ غَمّا بَعْدَ غَمّ غَمّ الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ وَغَمّ صَرْخَةِ الشّيْطَانِ فِيهِمْ بِأَنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ. وَقِيلَ جَازَاكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ رَسُولَهُ بِفِرَارِكُمْ عَنْهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ إلَى عَدُوّهِ فَالْغَمّ الّذِي حَصَلَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى الْغَمّ الّذِي أَوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيّهِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنّ قَوْلَهُ {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} تَنْبِيهٌ عَلَى حِكْمَةِ هَذَا الْغَمّ بَعْدَ الْغَمّ وَهُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَصَابَهُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْجِرَاحِ فَنَسُوا بِذَلِكَ السّبَبَ وَهَذَا إنّمَا يَحْصُلُ بِالْغَمّ الّذِي يَعْقُبُهُ غَمّ آخَرُ.الثّانِي: أَنّهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنّهُ حَصَلَ لَهُمْ غَمّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ثُمّ أَعْقَبَهُ غَمّ الْهَزِيمَةِ ثُمّ غَمّ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ ثُمّ غَمّ الْقَتْلِ ثُمّ غَمّ سَمَاعِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ قُتِلَ ثُمّ غَمّ ظُهُورِ أَعْدَائِهِمْ عَلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَمّيْنَ اثْنَيْنِ خَاصّةً بَلْ غَمّا مُتَتَابِعًا لِتَمَامِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ.الثّالِثُ أَنّ قَوْلَهُ بِغَمّ مِنْ تَمَامِ الثّوَابِ لَا أَنّهُ سَبَبُ جَزَاءِ الثّوَابِ وَالْمَعْنَى: أَثَابَكُمْ غَمّا مُتّصِلًا بِغَمّ جَزَاءً عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الْهُرُوبِ وَإِسْلَامِهِمْ نَبِيّهُمْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ وَتَرْكِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي لُزُومِ مَرْكَزِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْأَمْرِ وَفَشَلِهِمْ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يُوجِبُ غَمّا يَخُصّهُ فَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ الْغُمُومُ كَمَا تَرَادَفَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُهَا وَمُوجِبَاتُهَا وَلَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُمْ بِعَفْوِهِ لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ. وَمِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنّ هَذِهِ الْأُمُورَ الّتِي صَدَرَتْ مِنْهُمْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الطّبَاعِ وَهِيَ مِنْ بَقَايَا النّفُوسِ الّتِي تَمْنَعُ مِنْ النّصْرَةِ الْمُسْتَقِرّةِ فَقَيّضَ لَهُمْ بِلُطْفِهِ أَسْبَابًا أَخْرَجَهَا مِنْ الْقُوّةِ إلَى الْفِعْلِ فَتَرَتّبَ عَلَيْهَا آثَارُهَا الْمَكْرُوهَةُ فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّ التّوْبَةَ مِنْهَا وَالِاحْتِرَازَ مِنْ أَمْثَالِهَا وَدَفْعَهَا بِأَضْدَادِهَا أَمْرٌ مُتَعَيّنٌ لَا يَتِمّ لَهُمْ الْفَلَاحُ وَالنّصْرَةُ الدّائِمَةُ الْمُسْتَقِرّةُ إلّا بِهِ فَكَانُوا أَشَدّ حَذَرًا بَعْدَهَا وَمَعْرِفَةً بِالْأَبْوَابِ الّتِي دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا..مَعْنَى ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ: {ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسًا}.ثُمّ إنّهُ تَدَارَكَهُمْ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَفّفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْغَمّ وَغَيّبَهُ عَنْهُمْ بِالنّعَاسِ الّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ أَمْنًا مِنْهُ وَرَحْمَةً وَالنّعَاسُ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ النّصْرَةِ وَالْأَمْنِ كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ النّعَاسُ فَهُوَ مِمّنْ أَهَمّتْهُ نَفْسُهُ لَا دِينُهُ وَلَا نَبِيّهُ وَلَا أَصْحَابُهُ وَأَنّهُمْ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ فُسّرَ هَذَا الظّنّ الّذِي لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ بِأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلّ وَأَنّهُ يُسْلِمُهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ فُسّرَ بِظَنّهِمْ أَنّ مَا أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَلَا حِكْمَةَ لَهُ فِيهِ فَفُسّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ وَإِنْكَارِ أَنْ يُتِمّ أَمْرَ رَسُولِهِ وَيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَهَذَا هُوَ ظَنّ السّوْءِ الّذِي ظَنّهُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَتْحِ حَيْثُ يَقُولُ: {وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الْفَتْحُ 6] وَإِنّمَا كَانَ هَذَا ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ الْجَاهِلِيّةِ الْمَنْسُوبَ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَظَنّ غَيْرِ الْحَقّ لِأَنّهُ ظَنّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَذَاتِهِ الْمُبَرّأَةِ مِنْ كُلّ عَيْبٍ وَسُوءٍ بِخِلَافِ مَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَتَفَرّدِهِ بِالرّبُوبِيّةِ وَالْإِلَهِيّهِ وَمَا يَلِيقُ بِوَعْدِهِ الصّادِقِ الّذِي لَا يُخْلِفُهُ وَبِكَلِمَتِهِ الّتِي سَبَقَتْ لِرُسُلِهِ أَنّهُ يَنْصُرُهُمْ وَلَا يَخْذُلُهُمْ وَلِجُنْدِهِ بِأَنّهُمْ هُمْ الْغَالِبُونَ فَمَنْ ظَنّ بِأَنّهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَلَا يُتِمّ أَمْرَهُ وَلَا يُؤَيّدُهُ وَيُؤَيّدُ حِزْبَهُ وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَأَنّهُ يُدِيلُ الشّرْكَ عَلَى التّوْحِيدِ وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقّ إدَالَةً مُسْتَقِرّةً يَضْمَحِلّ مَعَهَا التّوْحِيدُ وَالْحَقّ اضْمِحْلَالًا لَا يَقُومُ بَعْدَهُ أَبَدًا فَقَدْ ظَنّ بِاَللّهِ ظَنّ السّوْءِ وَنَسَبَهُ إلَى خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ فَإِنّ حَمْدَهُ وَعِزّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ وَتَأْبَى أَنْ يُذَلّ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ وَأَنْ تَكُونَ النّصْرَةُ الْمُسْتَقِرّةُ وَالظّفَرُ الدّائِمُ لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ الْعَادِلِينَ بِهِ فَمَنْ ظَنّ بِهِ ذَلِكَ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ أَسَمَاءَهُ وَلَا عَرَفَ صِفَاتِهِ وَكَمَالَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ رُبُوبِيّتَهُ وَمُلْكَهُ وَعَظَمَتَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدّرَ مَا قَدّرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ لِحِكْمَةٍ صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ وَغَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ فَوْتِهَا وَأَنّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ الْمَكْرُوهَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهَا لَا يَخْرُجُ تَقْدِيرُهَا عَنْ الْحِكْمَةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى مَا يُحِبّ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لَهُ فَمَا قَدّرَهَا سُدًى وَلَا أَنْشَأَهَا عَبَثًا وَلَا خَلَقَهَا بَاطِلًا {ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ} [ص: 27] وَأَكْثَرُ النّاسِ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ السّوْءِ فِيمَا يَخْتَصّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلّا مَنْ عَرَفَ اللّهَ وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رُوحِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ جَوّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذّبَ أَوْلِيَاءَهُ مَعَ إحْسَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَيُسَوّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطّلِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنّهْيِ وَلَا يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَلَا يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ هَمَلًا كَالْأَنْعَامِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي دَارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فِيهَا بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَيُبَيّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَيُظْهِرَ لِلْعَالَمِينَ كُلّهِمْ صِدْقَهُ وَصِدْقَ رُسُلِهِ وَأَنّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمْ الْكَاذِبِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ يُضِيعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصّالِحَ الّذِي عَمِلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَنّهُ يُعَاقِبُهُ بِمَا لَا صُنْعَ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ فِي حُصُولِهِ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ بِهِ أَوْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَيّدَ أَعْدَاءَهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الّتِي يُؤَيّدُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَيُجْرِيهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ يُضِلّونَ بِهَا عِبَادَهُ وَأَنّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلّ شَيْءٍ حَتّى تَعْذِيبُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ فَيُخَلّدُهُ فِي أَسْفَلَ السّافِلِينَ وَيُنَعّمُ مَنْ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ فِي عَدَاوَتِهِ وَعَدَاوَةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى أَعْلَى عِلّيّينَ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْرَفُ امْتِنَاعُ أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُ الْآخَرِ إلّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ وَإِلّا فَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِقُبْحِ أَحَدِهِمَا وَحُسْنِ الْآخَرِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ وَتَرْكُ الْحَقّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَإِنّمَا رَمَزَ إلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً وَأَشَارَ إلَيْهِ إشَارَاتٍ مُلْغِزَةً لَمْ يُصَرّحْ بِهِ وَصَرّحَ دَائِمًا بِالتّشْبِيهِ وَالتّمْثِيلِ وَالْبَاطِلِ وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ ان يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَتَطّلَبُوا لَهُ وُجُوهَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ وَالتّأْوِيلَاتِ الّتِي هِيَ بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ وَلُغَتِهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرّحَ لَهُمْ بِالْحَقّ الّذِي يَنْبَغِي التّصْرِيحُ بِهِ وَيُرِيحَهُمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ فَإِنّهُ إنْ قَالَ إنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التّعْبِيرِ عَنْ الْحَقّ بِاللّفْظِ الصّرِيحَ الّذِي عَبّرَ بِهِ هُوَ وَسَلَفُهُ فَقَدْ ظَنّ بِقُدْرَتِهِ الْعَجْزَ وَإِنْ قَالَ إنّهُ قَادِرٌ وَلَمْ يُبَيّنْ وَعَدَلَ عَنْ الْبَيَانِ وَعَنْ التّصْرِيحِ بِالْحَقّ إلَى مَا يُوهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي الْبَاطِلِ الْمُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ فَقَدْ ظَنّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ أَنّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبّرُوا عَنْ الْحَقّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنّ الْهُدَى وَالْحَقّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ. وَأَمّا كَلَامُ اللّهِ فَإِنّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التّشْبِيهُ وَالتّمْثِيلُ وَالضّلَالُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَهَوّكِينَ ظَنّ السّوْءِ وَمِنْ الظّانّينَ بِهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ كَانَ مُعَطّلًا مِنْ الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ ثُمّ صَارَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا عَدَدَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا النّجُومِ وَلَا بَنِي آدَمَ وَحَرَكَاتِهِمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْأَعْيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا كَلَامَ يَقُولُ بِهِ وَأَنّهُ لَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا يَتَكَلّمُ أَبَدًا وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ يَقُومُ بِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَأَنّ نِسْبَةَ ذَاتِهِ تَعَالَى إلَى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِهَا إلَى أَسْفَلِ السّافِلِينَ وَإِلَى الْأَمْكِنَةِ الّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا وَأَنّهُ أَسْفَلُ كَمَا أَنّهُ أَعْلَى فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَيْسَ يُحِبّ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيُحِبّ الْفَسَادَ كَمَا يُحِبّ الْإِيمَانَ وَالْبِرّ وَالطّاعَةَ وَالْإِصْلَاحَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يُحِبّ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يَسْخَطُ وَلَا يُوَالِي أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ وَأَنّ ذَوَاتَ الشّيَاطِينِ فِي الْقُرْبِ مِنْ ذَاتِهِ كَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُفْلِحِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ يُسَوّي بَيْنَ الْمُتَضَادّيْنِ أَوْ يُفَرّقُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ أَوْ يُحْبِطُ طَاعَاتِ الْعُمْرِ الْمَدِيدِ الْخَالِصَةِ الصّوَابِ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ تَكُونُ بَعْدَهَا فَيَخْلُدُ فَاعِلُ تِلْكَ الطّاعَاتِ فِي النّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ بِتِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَيُحْبِطُ بِهَا جَمِيعَ طَاعَاتِهِ وَيُخَلّدُهُ فِي الْعَذَابِ كَمَا يُخَلّدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَقَدْ اسْتَنْفَدَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي مَسَاخِطِهِ وَمُعَادَاةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ أَوْ عَطّلَ حَقَائِقَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ أَنّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ أَنّ أَحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ إذْنِهِ أَوْ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَسَائِطَ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَهُمْ إلَيْهِ أَوْ أَنّهُ نَصَبَ لِعِبَادِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ يَتَقَرّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَتَوَسّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَجْعَلُونَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَيَدْعُونَهُمْ وَيُحِبّونَهُمْ كَحُبّهِ وَيَخَافُونَهُمْ وَيَرْجُونَهُمْ فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَنَالُ مَا عِنْدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَمَا يَنَالُهُ بِطَاعَتِهِ وَالتّقَرّبِ إلَيْهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ حِكْمَتِهِ وَخِلَافَ مُوجَبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مِنْ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوّضْهُ خَيْرًا مِنْهُ أَوْ مَنْ فَعَلَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَغْضَبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيُعَاقِبُهُ وَيَحْرِمُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَلَا الْمَشِيئَةِ وَمَحْضِ الْإِرَادَةِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا صَدَقَهُ فِي الرّغْبَةِ وَالرّهْبَةِ وَتَضَرّعَ إلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَوَكّلَ عَلَيْهِ أَنّهُ يُخَيّبُهُ وَلَا يُعْطِيهِ مَا سَأَلَهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يُثِيبُهُ إذَا عَصَاهُ بِمَا يُثِيبُهُ بِهِ إذَا أَطَاعَهُ وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ وَخِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا أَغْضَبَهُ وَأَسْخَطَهُ وَأَوْضَعَ فِي مَعَاصِيهِ ثُمّ اتّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيّا وَدَعَا مَنْ دُونِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا حَيّا أَوْ مَيّتًا يَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَيُخَلّصَهُ مِنْ عَذَابِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي بُعْدِهِ مِنْ اللّهِ وَفِي عَذَابِهِ. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يُسَلّطُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْدَاءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرّا دَائِمًا فِي حَيَاتِهِ وَفِي مَمَاتِهِ وَابْتَلَاهُ بِهِمْ لَا يُفَارِقُونَهُ فَلَمّا مَاتَ اسْتَبَدّوا بِالْأَمْرِ دُونَ وَصِيّةٍ وَظَلَمُوا أَهْلَ بَيْتِهِ وَسَلَبُوهُمْ حَقّهُمْ وَأَذَلّوهُمْ وَكَانَتْ الْعِزّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِأَعْدَائِهِ وَأَعْدَائِهِمْ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا ذَنْبٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ الْحَقّ وَهُوَ يَرَى قَهْرَهُمْ لَهُمْ وَغَصْبَهُمْ إيّاهُمْ حَقّهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ دِينَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُدِيلُهُمْ بَلْ يُدِيلُ أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ أَبَدًا أَوْ أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ حَصَلَ هَذَا بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ ثُمّ جَعَلَ الْمُبَدّلِينَ لِدِينِهِ مُضَاجِعِيهِ فِي حُفْرَتِهِ تُسَلّمُ أُمّتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ كُلّ وَقْتٍ كَمَا تَظُنّهُ الرّافِضَةُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ سَوَاءٌ قَالُوا: إنّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيَجْعَلَ لَهُمْ الدّوْلَةَ وَالظّفَرَ أَوْ أَنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَادِحُونَ فِي قُدْرَتِهِ أَوْ فِي حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَذَلِكَ مِنْ ظَنّ السّوْءِ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الرّبّ الّذِي فَعَلَ هَذَا بَغِيضٌ إلَى مَنْ ظَنّ بِهِ وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ رَفَوْا هَذَا الظّنّ الْفَاسِدَ بِخَرْقٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَاسْتَجَارُوا مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ فَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللّهِ وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَظَنّوا بِهِ ظَنّ إخْوَانِهِمْ الْمَجُوسِ وَالثّنَوِيّةِ بِرَبّهِمْ وَكُلّ مُبْطِلٍ وَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ مَقْهُورٍ مُسْتَذَلّ فَهُوَ يَظُنّ بِرَبّهِ هَذَا الظّنّ وَأَنّهُ أَوْلَى بِالنّصْرِ وَالظّفَرِ وَالْعُلُوّ مِنْ خُصُومِهِ فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ بَلْ كُلّهُمْ إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ السّوْءِ فَإِنّ غَالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أَنّهُ مَبْخُوسُ الْحَقّ نَاقِصُ الْحَظّ وَأَنّهُ يَسْتَحِقّ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللّهُ وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ ظَلَمَنِي رَبّي وَمَنَعَنِي مَا أَسْتَحِقّهُ وَنَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنْكِرُهُ وَلَا يَتَجَاسَرُ عَلَى التّصْرِيحِ بِهِ وَمَنْ فَتّشَ نَفْسَهُ وَتَغَلْغَلَ فِي مَعْرِفَةِ دَفَائِنِهَا وَطَوَايَاهَا رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النّارِ فِي الزّنَادِ فَاقْدَحْ زِنَادَ مَنْ شِئْت يُنْبِئْك شَرَارُهُ عَمّا فِي زِنَادِهِ وَلَوْ فَتّشْت مَنْ فَتّشْته لَرَأَيْت عِنْدَهُ تَعَتّبًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ وَاقْتِرَاحًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا جَرَى بِهِ وَأَنّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ وَفَتّشْ نَفْسَك هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ.فَلْيَعْتَنِ اللّبِيبُ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلْيَتُبْ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلّ وَقْتٍ مِنْ ظَنّهِ بِرَبّهِ ظَنّ السّوْءِ وَلْيَظُنّ السّوءَ بِنَفْسِهِ الّتِي هِيَ مَأْوَى كُلّ سُوءٍ وَمَنْبَعُ كُلّ شَرّ الْمُرَكّبَةُ عَلَى الْجَهْلِ وَالظّلْمِ فَهِيَ أَوْلَى بِظَنّ السّوءِ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ الْغَنِيّ الْحَمِيدِ الّذِي لَهُ الْغِنَى التّامّ وَالْحَمْدُ التّامّ وَالْحِكْمَةُ التّامّةُ الْمُنَزّهُ عَنْ كُلّ سُوءٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ فَذَاتُهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَصِفَاتُهُ كَذَلِكَ وَأَفْعَالُهُ كَذَلِكَ كُلّهَا حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَأَسْمَاؤُهُ كُلّهَا حُسْنَى. وَالْمَقْصُودِ مَا سَاقَنَا إلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ} [آل عِمْرَانَ 154] ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ الْكَلَامِ الّذِي صَدَرَ عَنْ ظَنّهِمْ الْبَاطِلِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عِمْرَانَ 154] وَقَوْلُهُمْ {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عِمْرَانَ 154] فَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى وَالثّانِيَةِ إثْبَاتَ الْقَدَرِ وَرَدّ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى لَمَا ذُمّوا عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الرّدّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ} [سُورَةُ آلُ عِمْرَانَ] وَلَا كَانَ مَصْدَرَ هَذَا الْكَلَامِ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسّرِينَ إنّ ظَنّهُمْ الْبَاطِلَ هَاهُنَا: هُوَ التّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ وَظَنّهُمْ أَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إلَيْهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ تَبَعًا لَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ لَمَا أَصَابَهُمْ الْقَتْلُ وَلَكَانَ النّصْرُ وَالظّفَرُ لَهُمْ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي هَذَا الظّنّ الْبَاطِلِ الّذِي هُوَ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَهُوَ الظّنّ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ الّذِينَ يَزْعُمُونَ بَعْدَ نَفَاذِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الّذِي لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ نَفَاذِهِ أَنّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى دَفْعِهِ وَأَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إلَيْهِمْ لَمَا نَفَذَ الْقَضَاءُ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ} فَلَا يَكُونُ إلّا مَا سَبَقَ بِهِ قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ وَجَرَى بِهِ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ السّابِقُ وَمَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَلَابُدّ شَاءَ النّاسُ أَمْ أَبَوْا وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ شَاءَهُ النّاسُ أَمْ لَمْ يَشَاءُوهُ وَمَا جَرَى عَلَيْكُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ فَبِأَمْرِهِ الْكَوْنِيّ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَأَنّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَقَدْ كُتِبَ الْقَتْلُ عَلَى بَعْضِكُمْ لَخَرَجَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلَابُدّ سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ إبْطَالًا لِقَوْلِ الْقَدَرِيّةِ النّفَاةِ الّذِينَ يُجَوّزُونَ أَنْ يَقَعَ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللّهُ وَأَنْ يَشَاءَ مَا لَا يَقَعُ.
|